ربما نستطيع ان نحدد ميعادا مسبقا لبدء حدث كبير بحجم ثورة 25يناير –حيث انها السابقة الأولى في التاريخ الأنساني على حد معرفتي التي يضرب فيها شعبا ما موعدا مسبقا مع مستبديه وظالميه للثورة ضدهم ولا يخلف الموعد المحدد سلفا والمعلوم للجميع ثوار ومستبدين، وعلى الرغم من لامعقولية الجرأة وشجاعة التحدي الذي استنفر كل قوى القمع التي يمتلكها نظام بوليسي عريق في القهر لإجهاض الثورة الا انه خسر رهان القمع وكسبنا رهان الحرية- اقول ربما تستطيع ان تحدد ميعادا مسبقا لبدء حدث كبير الا انك ابدا لن تستطيع ان تحدد ميعاد مسبقا تعرف فيه متى ينتهي، فالثورة التي بدأت ظهيرة الثلاثاء 25يناير لا يمكن ابدا ان ندعي انها توقفت مساء جمعة التنحي 11فبراير، كما لا يمكن ان ندعي اننا نعلم متى ستتوقف عن الفعل والتفاعل والتأثير والى اي مدى ستغير في المسارات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية للمجتمع المصري، فدرس التاريخ يعلمنا ان الثورات لا تقتنع بمجرد تغيير للوجوه والأشكال وتصر دائما ان تذهب ابعد بكثير من ذلك.
لذا دعنا نقول ان تجربة ثورة 25يناير بكل ما تحمله من معاني ورموز وحركة وتنظيم هي منتج مصري خالص نفتخر دوما حينما نجد اساليبه تتكرر في تجارب مختلفة وان كانت كلها تحمل علامة الجودة المصرية والشعار الجامع (صنع في مصر وقابل للتصدير).
فالثورة المصرية تميزت بصفات يمكن اجمالها فيما يلي:-
1-افتقدت الثورة المصرية لقيادة محددة اي انها كانت بلا رأس يمكن قطعها او على الأقل احتوائها.
ولكن وبالرغم انها افتقدت لرأس القيادة الا انها لم تفتقد لعقل التخطيط وهو هذا العقل الجمعي الذي حركها واستطاع ان يتجاوز كل محاولات الإجهاض والتخريب المضادة، وهي بذلك تكسر قاعدة مصرية اصيلة وهي قاعدة الزعامة التاريخية التي تحرك الأحداث او تتحرك بها الأحداث مثل احمد عرابي، سعد زغلول، جمال عبدالناصر. ونستطيع ان نزعم ان هذه الثورة قد انهت عصر الزعامات التاريخية.
2-لم تتفجر الثورة المصرية بفعل شرارة تفجير محلية بل من خلال تجربة ملهمة وهي الثورة التونسية التي اجابت على سؤال كان يلح على الضمير الوطني المصري منذ2004 وهو هل تستطيع حركة وطنية سلمية غير مسلحة الا بإيمانها ان وطنها يستحق ماهو افضل ان تهزم نظام امني مرعب يملك بخلاف اسلحة القمع قدر غير قليل من الإستهانة بكرامة المصريين ودمائهم؟ وجاءت الإجابة من تونس وبالعربي الفصيح وليس بأي لغة اخرى، وكانت الإجابة البسيطة والعميقة (نعم نستطيع).
3-راهن النظام السابق على قدراته على تفكيك اي قدرة للفعل والحشد السياسي لقوى المعارضة التقليدية وامتلك قدرات مخابراتية ضخمة لشل الأحزاب الرسمية وإحتواء حركات المعارضة شبه الرسمية، غير ان الثورة المصرية اكدت صدقية المثل العربي (من مأمنه يؤتى الحذر)، فلم يكن النظام يتوقع ان فضاء الأنترنت الأفتراضي يمكن ان ينظم قوى حقيقية على الأرض لديها قدرة لحشد وتجميع الغاضبين الفرادى في قوة غضب قوية ومنظمة.
4-استقر في يقين النظام ان القوى المدنية اضعف من ان تحشد الشارع وان التيار الديني لا يملك جرأة حشده، وهنا ظهرت المفاجأة التي لم تكتفي بإرباك النظام بل عاقبته بما هو فوق ذلك لتقضي عليه تماما،حيث استطاعت قوى مدنية في معظمها غير منتظمة في تيارات المعارضة التقليدية –وان استفادت من تجربتها- ان تحقق الحشد غير المسبوق في تاريخ مصر وان تبدأ واحدة من اعظم ثورات مصر ( ربما يكشف التاريخ انها اعظمهم على الأطلاق).
هل يعني كل ذلك ان الطريق اصبح ممهدا للدولة المدنية الديمقراطية في مصر؟؟
انتبهوا ايها السادة
ربما نخلص من كل ماسبق ان القوى المدنية - والتي استطاعت ان تتحمل عبء تفجير الثورة في ايامها الأولى بعدما تراوحت مواقف التيار الديني بين الرفض الكامل للمشاركة كما ذهب السلفيين او التردد في المشاركة والأنقسام بين الشباب والقيادات كما حدث مع الأخوان- ربما نفهم من هذا ان القوى المؤمنة بمدنية الدولة قد حققت نصرا حاسما انتصرت فيه لقيم الديمقراطية والليبرالية والدولة الحديثة، الا ان غير هذا ربما يحدث حيث أصبحت فكرة الدولة المدنية تحت قصف شديد ربما يؤدي ان لم ننتبه لأن تنضم لقائمة ضحايا الثورة.
ولكن كيف حدث هذا؟
قبل ان اجيب على هذا السؤال دعني اولا احدد ماذا تعني الدولة المدنية وذلك كتعريف اجرائي يساعدنا في ضبط المعاني وتنظيم الفكرة.
يعني ايه دولة مدنية؟
(الدولة المدنية هي تلك الدولة التي تسن فيها التشريعات والقوانين بأرادة بشرية غير مقدسة او جامدة، بحيث تكون هذه التشريعات قابلة للتطوير والتغيير اذا اقتضت الحاجة، على ان تسن هذه التشريعات والقوانين برضا وقبول عام وتضمن الحقوق الأساسية للمواطنين وتضمن المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بينهم)
وعليه فأن الدولة المدنية دولة حديثة لها خصائص عامة مثل:
1-دولة قانون (اي ان السيادة فيها لحكم القانون الذي لا يميز لصالح احد ولا يستبعد او يقصي احد)
2-دولة تؤمن ببشرية القوانين والمؤسسات(حيث لا ينبغي لأحد ان يحكم بأسم الحق الألهي او قانون الهي ثابت وغير قابل للمناقشة او التطوير، والقانون المعترف به هو القانون البشري الذي يستمد القيم العليا للأديان والأنسانية ولكنه يخضع دائما للفهم والجدل البشري وقابل دائما للتطور اذا اقتضت الضرورة المجتمعية)
3-الدولة المدنية هي دولة ديمقراطية ( اي ان السيادة فيها للأمة دون ان يدعي احد الوصاية على هذه الأمة، ويختار فيها المواطنين ممثليهم للتشريع والرقابة على الحكومات ، ولا تصدر فيها القوانين الا بالرضا والقبول العام والحكم فيها من خلال مؤسسات منتخبة)
4-الدولة المدنية هي دولة مساواة ( اي ان مواطنيها سواء في الحقوق والواجبات ولا يمكن بأي حال ان يتم التمييز بينهم على اساس ديني او عرقي او نوعي ومعيار التمايز الوحيد هو الكفاءة والموهبة والإنجاز)
ومن كل ما سبق فأن الدولة المدنية تقف على خط المواجهة وتقف امامها قوتين لاثالث لهما: الأولى هي القوى التي تريد إعادة تركيب الأستبداد من جديد وهي قوى موالية ومستفيدة من النظام السابق وهي قوى تحدث عنها غيري في اكثر من موضع لذا فلن اتحدث عنها هنا.
والقوى الأخرى هي التيارات الدينية المتشددة او ما يطلق عليه التيارات السلفية التي تظهر كقوى على يمين جماعة الأخوان المسلمين وتقدم طرح اكثر تشددا في فهم الإسلام السياسي، وترفض الديمقراطية بدعوى انها مشاركة لله في حكمه مستخدمة في ذلك نظرية الحاكمية الألهية الشهيرة في ادبيات التيار الديني (اي الحكم بأسم القانون الألهي على الأرض ورفض اي حكم او قانون بشري).
وعلى الرغم من عنف هذه التيارات الفكري وكذلك المادي ذلك العنف الذي يقدمهم كنموذج فج للتطرف الديني، وعلى الرغم من فشل كل تجارب الحكم التي قدموها في اكثر من بلد اسلامي، تلك التجارب التي اقتربت من صور افلام الرعب الدموية بأكثر مما اقتربت من نماذج الحكم والسياسة، على الرغم من كل ذلك الا ان هذه التيارات اثبتت من خلال تجربة الإستفتاء على التعديلات الدستورية ان لديهم اساليب في الحشد والتعبئة اكبر وأخطر مما يتصور البعض.
وتتميز هذه التيارات بصفات تجعل منها تهديد حقيقي ليس فقط على مستقبل الدولة المدنية بل على مستقبل التعايش الوطني والتعددية وأهم هذه الصفات:
1-هذه التيارات مسكونة بفكرة خطيرة وهي فكرة تطبيق الفضيلة الدينية ولو بالقوة على المجتمع، وعلى ما لهذه الفكرة من ضعف وتهافت ديني لأنها تتعارض مع الفكرة الإسلامية نفسها التي ترى ان التكليف الديني والثواب والعقاب قائم في الأساس على حرية الإختيار، فلا معنى للأثابة او العقاب لو كان المرىء مجبر على الفضيلة ولم يختارها بحرية، وبخلاف التهافت الديني نفسه فأن هذه الفكرة تهدد الحريات العامة والخاصة وتصيبها في مقتل.
2-هذه التيارات في معظمها تيارات إقصائية لا تقبل الجدل السياسي القائم على التمايز والتنوع الفكري ولا ترى في اي مختلف الا مخالف لصحيح الدين مما يهدم لديهم قيمة التعددية وفكرة الحوار وهذا بدوره يؤدي ان يغلب على رؤيتهم درجة عالية من الجمود والإنكفاء على الذات.
3-يتميز خطابهم السياسي بدرجة كبيرة من السذاجة والسطحية ويرفض كل الإجتهادات الدينية في التعامل مع الدولة الحديثة.
4-على الرغم من هذه الدرجة من السذاجة الا ان تكثيف خطابهم الديني وطرحهم رؤية للدين تحرم ما سواها يجتذب قطاعات من البسطاء الذين يدغدغ حسهم الديني هذه الرؤية الإحادية التي تقدم الخلاص الديني والدنيوي بأقصر الطرق التي تعتمد فقط على الإتباع والتلقين ولا تجهد الذهن بالإجتهاد والبحث، مما يصعب مهمة إعادة تلك الجماهير لقيم الدولة المدنية او للتيارات السياسية التي تقدم حلولا عقلانية بالإساس.
وعليه فأن مواجهة هذا الخطر اراه بالتعبير الفقهي فرض عين على كل دعاة الدولة المدنية لإنقاذ قيم الدولة الحديثة ولإنقاذ مصر من تجارب الفشل الحية التي تكررت في افغانستان والسودان والصومال وباكستان او حتى السعودية نفسها.
بل ازيد وأقول ان مواجهة هذه الأفكار هو فرض عين على كل مسلم مستنير لإنقاذ الإسلام الوسطي المتسامح الذي يؤمن بالإختلاف والتعددية من سيطرة رؤية تخطف الإسلام نفسه لتحصره في زاوية شديدة الضيق والإنغلاق.
خارطة طريق لتفكيك الأزمة:
لا اعني من كل هذا ان اعيد انتاج خطاب الفزاعات المرعبة التي استهلكها النظام السابق بل على العكس تماما فأنا ارى ان مثل هذه الأفكار يسهل هزيمتها وتجفيف منابعها المسممة ولكن يتطلب الأمر قدرا من الجهد المنظم والرؤية الواضحة، فأخطر ما يمر بالثورات هو غياب الرؤية وعدم تحديد الأولويات مما يتيح لجماعات قليلة القدرة على التأثير ولكنها تمتلك قدرات تنظيمية كبيرة من إختطاف الثورة الى مناطق متطرفة.
وعليه فأنا اقترح لبناء خارطة طريق متماسكة لمواجهة هذه المخاطر عدة خطوات وحزمة من الإجراءات العملية تساعد في انقاذ فكرة الدولة المدنية، وهي خطوات مفتوحة للمناقشة والإضافة، واراها خطوات سريعة وقصيرة المدى الى ان يستعيد التعليم المصري دوره في تشكيل الوعي العام وهو الدور الذي غاب عنه عمدا لعقود طويلة.
وهذه الخطوات كما اتصورها:
1-على القوى المدنية ان ان تنظم الجهود لتأسيس تجمع مدني موسع يقوم هذا التجمع بمهمتين إساسيتين، الأولى وضع جدول زمني للدعاية المنظمة لقيم الدولة المدنية ( مثل قيم العدالة والديمقراطية والمساواة ونزع القداسة عن اي رأي سياسي)، والمهمة الثانية وهي مهمة مصاحبة وموازية للأولى هي فضح الممارسات المتطرفة والتجارب الفاشلة في الحكم والسياسة لهذا التيار في البلدان الإسلامية المختلفة.
على ان تسير هذه الدعايا في مسارين، مسار يهتم بالإتصال الغير المباشر( صحافة، تلفزيون، انترنت) وهو المسار الذي تعودنا عليه قبل قيام الثورة وهو مسار فعال، ولكن ارى ان المسار الثاني هو الأهم والأكثر فاعلية الأن وهو المسار المتوافق مع حالة الحريات التي نعيشها بعد الثورة وهو مسار الإتصال المباشر حيث يقوم عدد من المتطوعين بالإتصال مباشرة بجمهور الناخبين وفئات مستهدفة ووتنفيذ حملة سياسية لدعم الدولة المدنية على ان يتم الإهتمام بشكل اكبر بالشباب والجامعة.
2-التنسيق بين نفس القوى المدنية لكي تؤسس لتحالف انتخابي مدني يواجه القدرات الإنتخابية الكبيرة لهذه التيارات، وذلك نظرا للدور الحاسم الذي ستقوم به الإنتخابات والبرلمان القادمين في تشكيل مستقبل الوطن.
3-إعادة الثقة لخطاب ديني وسطي بعدما فقد الناس الثقة في كثير من رموزه كنتيجة لإحتواء الدولة للأزهر وإستخدامه كغطاء ديني للإستبداد السياسي، لذا فإن اعادة الثقة للأزهر ودعم خطاب دعوي وإعلامي للإسلام الوسطي اصبح الأن ضرورة ملحة لمواجهة ذلك القصف الإعلامي المتطرف.
4-التواصل مع الإسلاميين المعتدلين الذين يقدمون خطابا سياسيا اكثر حداثة ولا يقفوا ضد القيم الأساسية للدولة المدنية، وذلك لعزل القوى المتطرفة بينهم وإحتواء الجزء الأكبر منهم في العملية السياسية وفقا لقواعدها مما يزيد من فرص التحول الديمقراطي بأقل تكلفة ممكنة، ويجنبنا الخطأ القاتل الذي يصنف الإسلاميين ككتلة واحدة مصمتة ولا يعزل بين المعتدلين منهم والمتطرفين مما يصعب من عمليات التحول الديمقراطي في البلدان ذات الإغلبية المسلمة.
5-في مرحلة متقدمة يمكن بدء حوار مع القوى السلفية نفسها، وذلك بهدف تقليل تكلفة الصراع وحصره بقدر الإمكان في إطار التنافس السياسي دون ان ينزلق الى مسارات عنيفة.
وفي النهاية ارى اننا اليوم اقرب من اي وقت اخر في تحقيق حلم مصر المدنية الديمقراطية التي لا تمييز فيها ولا إستبعاد، ولا سيادة فيها الا للأمة وللقانون، غير ان الأحلام لا تحقق نفسها بل هي دائما بحاجة لرجال ونساء امنوا ان الأحلام دائما وأبدا ممكنة بشرط ان يكون لدينا إرادة تنفيذها على الأرض.
تعليقات
إرسال تعليق