التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المقالات الأحدث

ترامب في الكنيست: خطة سلام تحت تهديد السلاح

  خطاب ترامب في الكنيست (الأهم سياسيا من كل هراءه   في شرم الشيخ) لا يفضي إلى أوسلو ولا إلى جائزة نوبل، بل إلى لاهاي على أبواب المحكمة الجنائية الدولية . لكن، بطبيعة الحال، لن يُحاسَب، لأنه الطرف الذي يمتلك السلاح في مواجهة الكوكب بأكمله . الخطاب جاء كوثيقة سياسية تحمل ست رسائل مركزية : اعترافٌ ضمني بالمشاركة في الإبادة عبر التسليح تحدّث ترامب بفخر عن الدعم الأميركي لإسرائيل وعن “الأسلحة الذكية” والقنابل الغبية والصواريخ القادرة على محو مربعات سكنية كاملة ما فوق الأرض وما تحتها، التي مكّنتها من “تحقيق النصر”، في إشارةٍ مباشرة إلى استمرار تدفق السلاح الأميركي أثناء الحرب على غزة . لم يقل إنه يسلّح للإبادة، لكنه قدّم الإبادة باعتبارها نتيجة مشروعة للدفاع عن النفس، مما يجعله شريكًا فعليًا في الجريمة، لا مجرد متفرّج أو متواطئ صامت . تمجيدٌ لقادة المذبحة وتبييض الجرائم أشاد ترامب علنًا بقادة الحرب الإسرائيلية، وخصّ بالذكر من وصفهم بـ“الأبطال الذين أنقذوا إسرائيل من الظلام”، في وقت ما زالت فيه التحقيقات الدولية تلاحقهم بتهم ارتكاب جرائم حرب . هذا الإطراء لم يك...

ما بعد الحرب في غزة.. استشهاد صالح الجعفراوي والاختبار الأصعب للمجتمع


لا أعرف تفاصيل ما حدث في غزة وأدى إلى استشهاد الصحفي صالح الجعفراوي، ولن أهرف بما لا أعرف كما يفعل كثيرون ممن يستسهلون إطلاق الأحكام.
لكن من الواضح أن الحادثة أعادت إلى السطح الأسئلة الأعمق حول الوضع الداخلي في غزة بعد الحرب، وما إذا كانت المنطقة تتجه نحو حرب أهلية كما يروّج البعض، أم نحو إعادة تشكّل بطيئة للسلطة والنظام.

يعيش البعض داخل تصور مثالي رومانسي، يطالب بمحاكمات قانونية وعودة فورية لمؤسسات العدالة، متناسيًا أن الحروب الكبيرة لا تنتهي بالسلام بل بالفوضى.
فبعد كل حرب، تضعف المؤسسات، ينهار القانون، وتصبح المشاعر ملتهبة لأن الحياة والموت كانا على المحك.
لن ينسى الناس من تعامل مع العدو، أو من سرق قوتهم، أو من استغل الحرب لفرض نفوذ إجرامي أو سياسي.

وليس في ذلك ما هو استثنائي.
انظر إلى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: حين انهارت الدولة وسقط القانون، تحولت البلاد إلى بيئة مكتظة بالفوضى، والاتجار بالسلاح، والسوق السوداء، وانتشار الثأر.
لذلك، ما يجري في غزة ليس شذوذًا عن التاريخ، بل تكرار لنمط معروف في المجتمعات الخارجة من الحروب الكبرى.

ورغم كل الفوضى، غزة ليست على أعتاب حرب أهلية كما يروّج البعض.
ما نراه هو اشتباكات محدودة وانتقامات فردية، لكن التماسك العام ما زال قائمًا لصالح حركة حماس، التي تحتفظ حتى هذه اللحظة بشرعية الحكم وسقف السيطرة الأمنية في القطاع.
الحديث عن حرب أهلية هو قفز في الفراغ، بل تفكير بالتمني عند أطراف — بعضها فلسطيني — تتمنى انهيار غزة من الداخل بعد أن فشلت في إخضاعها من الخارج.

لكن كي نفهم المشهد بعمق، علينا النظر إلى الشقوق الأربعة التي تحدد خطوط الصراع الداخلي في غزة بعد الحرب، دون أن تطيح بها تمامًا:

1. خط المعونات والنفوذ

بعد الحرب، تشكّلت مجموعات مسلّحة تعمل على نهب المساعدات الإنسانية أو توجيهها بالتنسيق مع قوى خارجية — إسرائيلية أو أميركية — مقابل نفوذ سياسي داخل القطاع.




في المقابل، كانت حماس تحاول تأمين خطوط الإمداد لمقاتليها وضمان استمرار تدفق الموارد إلى مناطق المواجهة.
هذا التداخل بين العمل العسكري والإغاثي خلق حالة من الشك المتبادل، وأشعل رغبة في الانتقام بعد توقف القتال مؤقتًا.
وهكذا اختلطت السياسة بالنجاة، والمقاومة بالاقتصاد الرمادي.

2. الشق السياسي المتجدد

الصراع بين حماس وفتح لم يكن يومًا خافتًا، لكنه اليوم أعمق وأكثر حدة.
الضغط العسكري الهائل، والخسائر البشرية، وتفاقم الوضع الإنساني دفعت بعض خصوم حماس إلى الاصطفاف ضدها — لا ولاءً للاحتلال، بل رفضًا لنتائج 7 أكتوبر ولطريقة إدارة الحرب.
تحوّل الخلاف السياسي إلى شرخ اجتماعي مفتوح على كل احتمالات الثأر والمزايدة الوطنية.

3. الشق الأمني.. حين تتشابه الخيانة مع السياسة

انكشفت خلال الحرب وبعدها خلايا متعاونة مع الاحتلال.
لكن في المناخ المضطرب نفسه، لجأ بعض خصوم المقاومة إلى تبرير مواقفهم بوصفها “معارضة سياسية”،
لتختلط الخيانة بالموقف، والشك بالخوف، والمقاومة بالاتهام المتبادل.
أصبح كل مسلح قاضيًا ومحققًا في آن واحد، في ظل غياب نظام قضائي قادر على الفصل.

4. الشق الجنائي.. أمراء الحروب وضباع الموت

كما في كل الحروب، يولد اقتصاد أسود جديد:
عصابات تقتات على الدم والموت، تمارس الاتجار بالبشر، والعملات، والمخدرات، مستغلة انهيار الرقابة وتفكك السلطة.
هؤلاء تمددوا في مساحات الدمار، وتركوا وراءهم سلسلة من الجرائم التي تولّد رغبات في الانتقام خارج أي إطار قانوني.

في الحالة المثالية، العدالة تحتاج مؤسسات وقانونًا ومسافة آمنة من الغضب.
لكن بعد الحروب، يكون البشر أبعد ما يكونون عن تلك الحالة.

وفي غزة اليوم، لا توجد حرب أهلية كما يتمنى بعضهم، بل مرحلة إعادة تشكيل سلطة داخل بيئة مضطربة.
السلطة لم تسقط لكنها تهتزّ؛
فحماس ما زالت الإطار الأقرب للنظام،
بينما تتحرك قوى مسلّحة أخرى على الأطراف،
مستفيدة من مساحة الفراغ التي خلّفتها الحرب.


ورغم كل ذلك، تبقى حماس — برغم ضعفها النسبي — الطرف الأقدر على فرض نوع من النظام، وإن كان هشًّا ومؤقتًا، إلى أن يجرّ كل طرف الآخر إلى حافة الإنهاك،
وتبدأ غزة مرحلة جديدة من الاختبار الأخلاقي والسياسي الأصعب في تاريخها الحديث.

استشهاد صالح الجعفراوي ليس مجرد حادث عرضي، بل مؤشر على تحولات عميقة في بنية السلطة والمجتمع في غزة.
الحرب انتهت عسكريًا الآن ولو مؤقتا، لكنها لم تنتهِ سياسيًا ولا اجتماعيًا.
وغزة، كما هي دائمًا، تخرج من تحت الركام لتواجه سؤالها الأصعب:
كيف تُعيد بناء ذاتها من دون أن تبتلعها فوضى السلاح والثأر؟

تعليقات

المشاركات الشائعة