يشكل
الأسلام احد اهم مصادر تشكيل الثقافة والعادات والقيم لنحو 26% من سكان العالم (حوالي 1.5 مليار نسمة من سكان
العالم) من اندونسيا شرقا وحتى الرأس الأخضر غربا في اكثر من 57 دولة تشكل ما يعرف
بالعالم الأسلامي وهي الدول الأعضاء في
منظمة التعاون الأسلامي - ثاني اكبر منظمة دولية من حيث عدد اعضائها بعد الأمم
المتحدة - .
كما
شكلت الحضار الأسلامية احد اهم الروافد الحضارية الكبرى والتي قدمت من خلال قيمها
وانتاجها الثقافي والعلمي والفلسفي جسرا للعالم للعبور من مرحلة العصور الوسطى الى
عصور النهضة ..وشكلت الحواضر الأسلامية الكبرى مثل القاهرة وبغداد ودمشق نوافذ حضارية في عصور
الأنحطاط والتراجع الأوربي كما ظلت قرطبة في التاريخ الوسيط النموذج الأشهر للتحضر
والتعايش والمدنية ...
غير
ان الواقع الحالي يؤشر الى ازمة حقيقية
تعاني منها الدول الأسلامية في
تطبيق قيم الحكم الرشيد والديمقراطية وحكم القانون ..فمن بين اكثر من 57 دولة
اسلامية لم تجتاز الا دولتين فقط اختبار الديمقراطية وهما اندونسيا وتركيا وبدرجة
اقل في بنجلاديش وتتعثر الديمقراطية في عدد اخر من البلدان فتتقدم احيانا وتتراجع
احيانا غير ان الكثير من الدول الأسلامية دول تعاني من نظم حكم سلطوية مستبدة
وتتلاشى فيها اي اثر للحكم الرشيد والديمقراطية وحكم القانون ...
ويعتقد
الكثيرون حول العالم ان الديمقراطية وحكم
القانون لا يمكن لهما ان يتطورا في دول
اسلامية نظرا لطبيعة القيم الأسلامية التي تعوق تطور مثل هذه القيم العالمية , كما
يعتقد اخرون ان الأسلام بطبيعته في حالة صراع وتصادم مع المنتج الحضاري الحديث نظرا لأنه منتج
حضاري غريب على الأسلام كدين وكثقافة وهنا تكمن المشكلة الأساسية للثقافات
الأسلامية حول العالم .....
لكن
هل من ثمة صراع حقيقي بين الأسلام من جهة
وبين ثقافة الديمقراطية والحكم الرشيد وحكم القانون من جهة اخرى ؟؟
وبمعنى
اخر هل ادماج قيم الديمقراطية وحكم القانون امر مستحيل في الدول ذات الثقافات
الأسلامية وأن اي مجهود في هذا الأتجاه مضيعة للوقت وهدر للمجهود ؟؟؟
دعونا
نحاول ان نسبر اعماق الأزمة في الصفحات القليلة القادمة
اولا / القيم الأسلامية ودولة قانون
دعونا
نطرح التساؤل التالي هل تعيق القيم الأسلامية تطور مفاهيم دولة القانون ؟
وقبل
ان نطرح اجابة على هذا التساؤل دعونا نتسائل ما هي القيم الأساسية التي تقوم عليها
دولة القانون؟؟....
تقوم
دولة القانون في الأساس على قيم تسعى لتحقيق ثلاثة مبادىء اساسية وهي كما يلي :
1- تحقيق مبدأ الشرعية من خلال خلق الية لسن
القوانين بطريقة ديمقراطية تحظى برضا الأفراد وتعبر عن مصالح الأمة ,ولا تفرض عليها قوانين بطريقة
فوقية بل بطريقة تعبر عن مصالح المجتمع.كما يشمل هذا المبدأ قدرة الأمة على
المحاسبة ومراجعة الحكومة والية سلمية للتغيير السلمي للقوانين.
2- تحقيق مبدأ العدالة والمساواة من خلال التأكيد على قيمة عدالة القواعد والأجراءات
القانونية بحيث تكون مجردة وعامة وشاملة , التأكيد على المساواة الكاملة امام
القانون في التطبيق، بحيث يخضع الجميع
لسلطة القانون بما فيهم الدولة نفسها وحكومتها سواء بسواء مع بقية المواطنين .
3- تحقيق مبدأ
الكفاءة والفاعلية في تنفيذ القانون حيث تتكفل الدولة من خلال اجهزتها بتنفيذ
القانون بكفاءة وفاعلية على الجميع دون ابطاء او تمييز.
اذن هذه هي القيم الأساسية لبناء دولة القانون: الشرعية
( اي ان تكون القوانين تعبيرا عن ارادة الأمة ومصالحها ) , العدالة ( اي ان تكون
القواعد القانونية عادلة ونزيهة وشاملة ومجردة وتطبق بمساواة على الجميع بما فيهم
المسئولين بالدولة سواء بسواء مع بقية المواطنين) , الكفاءة والفاعلية (اي ان
القانون يجب ان يفرض من قبل الدولة بكفاءة وفاعلية دون تباطؤ او تمييز).. اذن فدعنا نبحث هل لهذه القيم من اثر في القيم
الأسلامية وهل يمكن ان تنمو هذه القيم في ظل ثقافة اسلامية ؟؟؟
أ/ تحقيق الشرعية الشعبية في
الثقافة الأسلامية
تهدف الديمقراطية الى تأكيد مشاركة المواطنين في
صياغة طريقة حكمهم وتشريعاتهم من ناحية
وفي خلق الية لمحاسبة الحكومات ومراجعة ادائهم من ناحية اخرى وهو هنا ما يطلق عليه
مبدأ الشرعية حيث ان رضا المحكومين عن القوانين التي تحكمهم ومراقبتهم لها
والمشاركة في تشريعها هي مصدر الشرعية في اي نظام ديمقراطي حقيقي.
ولم
تتطور الديمقراطية كأداة للتداول السلمي للسلطة في الثقافة الأسلامية عبر تاريخها القديم ولا يعود ذلك لقصور في
الثقافة الأسلامية بقدر ما يعود الى طبيعة عصر لم يحتفي كثيرا بتداول سلمي للسلطة,
حيث كانت الغلبة والقوة مصدرا للقوة والسلطة. وظلت السلطة والقوة مركزة في فترات
طويلة والى وقتنا الحالي في معظم المجتمعات الأسلامية في يد اقلية حاكمة وفي شخص
الحاكم نفسه.
الا انه
بمراجعة مصادر تشكيل القيم الأسلامية في المصادر والنصوص ( القرآن الكريم والسنة النبوية)
نلاحظ ان قيمة المشاركة في صناعة القرار اوالشورى
( وهي اقرب الصيغ الأسلامية لفكرة الديمقراطية ) كانت قيم محورية في التراث
الأسلامي والنصوص الأسلامية.
ففي القرآن الكريم
"وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ"
– (سورة
الشورى: آية 38)
وكذلك "وَشَاوِرْهُمْ
فِي الأَمْرِ".. (سورة آل عمران الآية 159).
اما
في السنة النبوية فقد اقرت افعال النبي (ص) في اكثر من موقف نزوله على الشورى
والمشاركة في اتخاذ القرار كما حدث في غزوات بدر وأحد والخندق وفي جلسات النبي (ص
) مع اصحابه ....
الا
ان الشورى كوسيلة للمشاركة العامة في صنع القرار او في سن القوانين وكمصدر للشرعية
تقلصت بشكل كبير فيما بعد في الحضارة
الأسلامية ودخلت في جدل مدمر بين فريقين احدهما يرى ان الشورى غير ملزمة للحاكم
والأخر يرى انها ملزمة لكنها في طبقة محدودة من العلماء ( ما يطلق عليه في التراث
الفقهي اهل الحل والعقد).
انتهى الجدل نهاية غير سعيدة حيث استطاعت قوى
الأستبداد ان تجعل الشورى مجرد عملية شكلية .وكذلك عملية
محاسبة الحاكم وأجراءات اختياره (
ما اطلق عليه البيعة) التي تحولت بدورها الى ديكور مجرد من معناه وهدفه, فأذا لم تتم
بالتراضي تمت بالقوة, ومالم يؤخذ بالبيعة كان يؤخذ بالسيف والغلبة. وتم التأصيل لثقافة مستبدة استهدفت تحييد
الشعوب تماما من عملية صنع القرار والمشاركة فيها. واحتكر الحكام السلطة والقرار او على افضل تقدير
سمحوا بشورى انتقائية خلقت طبقة سياسية ودينية موالية لا ترى في الشورى الا ما
اتفق مع ارادة الحكام ودعم قرارتهم حتى ولو كانت مخالفة صريحة لصالح الأمة ومصالح
افرادها (وذلك مع الأقرار بوجود استثناءات قليلة داخل هذه الطبقة بعضها دفع حياته
ثمنا لأيمانه بشورى ملزمة للحاكم وبعضهم كان حظه افضل قليلا فنال احترام الحاكم
ونجا بحياته. وفي كل الأحوال كان يتوقف هذا على رغبة الحكام وميولهم )
خلق
هذا الوضع بيئة استبدادية ربما تتعارض مع القيم الأسلامية الأولى لكنها شجعت على
تدعيم السلطوية والقوانين الفوقية التي تخرج في شكل فرمانات تعزز سلطة الحاكم
والدولة وتركز السلطة في يد واحدة ولا تهتم
كثيرا بمصالح الأفراد ولاتعبر عن طموحاتهم.
واستمر هذا الوضع الى يومنا
هذا في اغلب الدول ذات الثقافة الأسلامية حيث عززت الأتجاهات السلطوية وجودها عن
طريق تراث قمعي ضخم حيد قيمة الشورى وتراجعت فيه كل مظاهر المشاركة الشعبية
والمجتمعية. وهو ما خلق ازمة فجوة بين مصادر القيم والتطبيق العملي في المجتمعات
الأسلامية وهو ما عبر عنه الداعية
الأسلامي الشهير الشيخ محمد الغزالي في مقدمة كتابه (ازمة الشورى في المجتمعات
العربية والأسلامية) بقوله (أما في أرجاء
العالم الإسلامي فإن الحكم الفردي -من قديم- أهلك الحرث والنسل وفرض ألواناً من
الجدب العقلي والشلل الأدبي أذوت الأمال وأقنطت الرجال) 1 – محمد الغزالي - ازمة
الشورى في المجتمعات العربية والأسلامية.
ب/قيم العدالة والمساواة في الثقافة الأسلامية
ترتكز
دولة القانون على قيمة العدالة والمساواة امام
القانون بحيث تكون هذه
القواعد شاملة للجميع ومجردة لا تستهدف فئة ولا تستثني اخرى.
وقد حفلت الثقافة الأسلامية في اصولها الأولى بالتأكيد
على قيمة العدالة , ففي القرآن الكريم
إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
سَمِيعًا بَصِيرًا" النساء: 58
وكذلك
يقر بالعدل حتى ولو لم يلتزم به الأخرون كقيمة انسانية جامعة وليست قيمة تختص بها
طائفة من الناس دون غيرها فالناس في العدالة متساويين , سواء كانوا مسلمين او غير
ذلك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. المائدة8
كما اقر القرآن الكريم القواعد
القانونية التي تم اقرارها في القواعد القانونية الحديثة فيما بعد وهي قواعد مثل
شخصية العقوبة : " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" المدثر 38
( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى) الأنعام 164
وقد شكلت
هذه القواعد بناء قانوني تطور عبر التاريخ الأسلامي وضع قواعد وشروط للقضاء بين
الناس ومن هذه الشروط
1- العدل في الأستماع
للمتخاصمين حيث ان معاملة القاضي للخصوم والنظر في خصوماتهم ويكون ذلك بالعدل بينهم في كل
شيء في المجلس والخطاب واللحظ واللفظ، فقد روى الترمذي بإسناد حسن من حديث علي رضي
الله عنه قال: قال رسول الله )(إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري
كيف تقضي)
) مسند أحمد). (2) دكتور مصطفى الرافعي – المساواة في الأسلام - http://www.balagh.com/deen/wd0upoxe.htm
2- أن يكون القاضي مؤهلا ومشهود له بالعدالة كما ان
من شروط القاضي ان يكون حاضر الذهن هادئ البال، غير
منفعل ولا غضبان، حتى يأمن الخطأ في قضائه، فقال (ص): لا يقضين حكم بين اثنين
وهو غضبان ( البخاري)
3- اقامة البينة او
الدليل ويظهر ذلك في قول النبي (ص) (لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على
المدعي واليمين
على من أنكر) حديث حسن رواه البيهقي وغيره، .
غير
ان النظام القضائي في الدول ذات الثقافة الأسلامية برغم من تمتعه بتقاليد راسخة
لتحقيق العدالة الا انه قد اضطر لأدخال تعديلات غربية النشأة مع القرن التاسع عشر
في العديد من البلدان مثل الأخذ بالعمل بنظام تعدد درجات القضاء بحيث يكون هناك دائما فرصة لمراجعة الأحكام
ومنح المتهم عدة فرص للتقاضي والأستئناف.
وكذلك تم الأستغناء عن نظام القاضي الواحد في الكثير من البلدان الأسلامية
وتم الأستعاضة عن ذلك بنظام المحاكم التي تتكون من عدة قضاة للتشاور وعدم قصر
الحكم على قاضي واحد فقط لتحصين الحكم القضائي ضد احادية الرأي والرؤية الواحدة .
اما عن قيمة
المساواة في الثقافة الأسلامية
المساواة
امام القانون وهي احد القيم الرئيسية في بناء دولة القانون وكذلك احد القيم الأساسية
في الثقافة الأسلامية .
ففي القرآن الكريم تظهر قيمة المساواة بأوضح
معانيها
"يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر
وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند اللّه اتقاكم"
(الحجرات: 13).
كما
قال النبي (ص) في خطبة الوداع (أيها الناس، إن
ربكم واحد وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
ويروي عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أنه تقدم له في مجلس القضاء علي كرم
الله وجهه مع خصم يهودي له خصومة بينهما، فنادى عمر علياً بقوله له: ((تكلم يا أبا
الحسن))، بينما نادى اليهودي باسمه المجرد عن الكنية، فإذا بعلي يغضب، فقال له
عمر: ((أتغضب يا علي لأني أسوي بينك وبين خصمك؟))، فأجابه علي قائلاً: ((كلا،
ولكني غضبت لأنك كنيتني فعظمتني ولم تفعل ذلك مع خصمي).
الا
ان البعض ينظر الى قيمة المساواة في الدول الأسلامية كقيمة منقوصة مستندين في ذلك
الى تفسيرات متشددة للنصوص تنتقص من حق المرأة ومن حق غير المسلمين في المجتمعات
ذات الأغلبية المسلمة , الا ان قراءات منفتحة للنص الأسلامي قد تجاوزت هذه المشكلة
وقدمت رؤية اكثر تسامح اعلت من قيمة المواطنة كأساس للمساواة امام القانون.
ج /الكفاءة والفاعلية في تطبيق القانون
لا
يمكن للقانون ان يطبق نفسه بل يجب ان تقوم على تطبيقه دولة قوية تمتلك اجهزة تطبق القانون بكفاءة وفاعلية على الجميع , وتقاس
الدولة القوية بمدى قدرتها على تطبيق القانون وتنفيذه على الجميع وهي تقابل الدولة
الرخوة التي لا تملك القدرة او الرغبة في تطبيق القانون على الجميع بنفس الكفاءة ...
ويؤكد التراث والنص الأسلامي على
فكرة تطبيق القانون بفاعلية ومساواة فقد
رفض النبي (ص) توسط اسامة بن زيد للعفو عن امرأة ذات اصل اجتماعي رفيع ادينت
بالسرقة مقرا مساواة مطلقة امام القانون وكفاءة في التطبيق حتى لو كان المدان ابنته
فاطمة محذرا من انتقائية القوانين قائلا ( إنما أهلك مَن كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق
فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد) )).( أخرجه البخاري في صحيحه(6406)،و مسلم(1688)، و أبو داود(4396 و4397) ،و الترمذي (4887)، و النسائي في المجتبى(4890 و 4895) و أحمد في المسند(25336) ،و غيرهم من طريق عائشة أم المؤمنين
و عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وهو نفس
المعنى الذي يظهر في التراث الأسلامي في خطبة الخليفة الأول ابو بكر الصديق حين
يقول تأكيدا على دور الدولة في تطبيق القانون على الجميع بمساواة وفاعلية " والضعيف فيكم
قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء
الله ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله " سيرة ابن هشام – امر سقيفة بني ساعدة-
الا انه
ولفترات طويلة في التاريخ الأسلامي الى عصرنا الحالى استطاعت الدولة السلطوية ان
تدمج اجهزة تطبيق القانون في التها القمعية, فحولت الأجهزة الأمنية المنوط بها
تطبيق القانون وتفعيله الى اجهزة سياسية تحافظ على الوجود الفيزيقي للأستبداد
وتمارس القمع المنظم لوأد محاولات الأصلاح مما جعلها و بمرور الوقت مجرد ذراع
لحماية السلطة القائمة بأكثر من كونها اداة لتفعيل القانون .
وعليه
فأن المصادر الأولى لتشكيل الثقافة الأسلامية ربما تتفق الى حد كبير مع الركائز
الرئيسية لبناء دولة القانون غير ان الواقع في الدول ذات الثقافة الأسلامية يقدم
صورة مغايرة تماما تتصادم مع الديمقراطية
وتتراجع فيه على المستوى العملي والتطبيقي ثقافة الحكم الرشيد ودولة
القانون ...
فأين
تكمن الأزمة اذن ؟؟؟
ثانيا/ابعاد ازمة دولة القانون في الدول ذات الثقافة
الأسلامية:
ازمة
دولة القانون في الدول ذات الثقافة الأسلامية ازمة تاريخية ترسخت على مر التاريخ
الأسلامي حيث استطاعت قوى الأستبداد ان ترسخ جذور لثقافة الأستبداد في الدول
الأسلامية.
لكن كيف استطاعت هذه القوى ان تدعم حضور
الأستبداد في الواقع السياسي الأسلامي على مر التاريخ وصولا للحظة الراهنة ؟
1- يحفل التراث
الأسلامي بتفسيرات متنوعة وأحيانا متضاربة للنص المقدس, فالأسلام كغيره من الأديان
و الأفكار العظمى في تاريخ البشرية يمكن تفسير نصوصه بعدة اوجه بعضها متشدد وبعضها
متسامح , الا ان قوى الأستبداد لجأت الى رؤى متشددة للنص المقدس في
الأسلام تهدر من خلاله كل قيم الشورى
والمشاركة والعدالة والمساوة لصالح تعظيم قيم الخضوع للحاكم والتكيف مع الأستبداد
والسمع والطاعة ولو كان لسلطان غشوم, وترى دائما ان حل ازمة السلطة المستبدة هو
الخضوع لها وعدم مقاومتها او ترشيدها.
2- لم تتطور الدولة
القومية في كثير من البلدان الأسلامية وكان الولاء عبر التاريخ الأسلامي المبكر
والوسيط لدولة الخلافة , بل كان هذا
الولاء في جزء منه يعد واجب ديني حيث نجحت تيارات الأستبداد في مرحلة
من التاريخ الأسلامي ان تضفي على الخليفة
مكانة روحية بخلاف مكانته الدينوية فبحسب تعريف الخلافة فهي "رئاسة عامة في
سياسة الدنيا وأقامة الدين عن النبي (ص)" (3) – الماوردي الأحكام السلطانية –
ص 50 – كما ان ابن خلدون يعرفها انها " خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين
والدنيا " (4) – مقدمة ابن خلدون – ص244- ونلاحظ انها تعريفات تم وضعها في
العصور الوسطى وهي الفترة التي ازدهرت فيها التفسيرات الأستبدادية للسلطة وصاحبها
اضفاء مكانة روحية للخلافة.
وقد
اسهم هذا الوضع الخاص للحاكم في الدول ذات المرجعية الأسلامية في منع تطور نظرية
سياسية تحد من سلطات الحاكم وتوزع مصادر القوى في الدولة وتمنح الأمة حق في المشاركة في صنع القرار
ومحاسبة الحكام.
3- اسهمت حالة
العزلة الثقافية والركود الحضاري التي فرضها
السلام العثماني ( فترة الحكم العثماني
لأجزاء واسعة من العالم الأسلامي الذي فرض سلام بين الدول الخاضعة له الا انه كان
سلاما يتسم بقدر غير قليل من الخمول الحضاري والثقافي) اسهمت في منع التواصل
الحضاري بين الشرق والغرب, ذلك التواصل الذي استفاد منه الغرب للخروج من ازمته
الحضارية الكبرى في العصور الوسطى وذلك تطبيقا لقاعدة لا استثناء لها وهي ان
الحضارات تقوى وتزدهر بقدر ما تستفيد من تجارب بعضها البعض ..الا انه ومع نهاية
عصور الوسطى فرض العثمانيين الأتراك ستارا حديديا على اجزاء كبرى من العالم
الأسلامي منع التواصل مع افكار الحرية والديمقراطية التي سيطرت على حركة النهضة
السياسية في اوروبا انذاك مما اثر على استيعاب العالم الأسلامي لهذه الأفكار فيما
بعد .
4- على اثر حركة
التوسع الأستعماري الغربي في اجزاء كبيرة من العالم الأسلامي تجددت مشاعر الغضب من
كل ما هو غربي, غذى هذا الغضب تيارات تؤمن بأن الثقافة الأسلامية ( والتي هي منتج
انساني تطور عبر التاريخ) هي ثقافة تتمتع بأكتفاء ذاتي لا حاجة لها للتفاعل مع اي
منتج حضاري نشأ في بيئة مختلفة. وهي الدعوة التي خرجت منها كل الحركات الأسلامية المحافظة او ما يعرف
بالأسلام السياسي ..اسهمت هذه الدعوى بلا شك في ترسيخ حالة عزلة ثقافية حتى في ظل التواصل منعت هذه
العزلة من الأستفادة الكاملة من تطور مفاهيم وقيم دولة القانون والديمقراطية
والحكم الرشيد بحجة الخصوصية الثقافية المكتفية ذاتيا. وبحجة اخرى هي ان القانون
الأسلامي هو قانون مقدس متكامل ليس بحاجة الى صياغة متطورة تتناسب مع العصر او
تسمح للأمة بمراجعته وأضفاء شرعيتها عليه.
5- خلقت الثقافة
السلطوية في المجتمعات الأسلامية - التي
تميل الى تركيز السلطة ومصادر القوة في يد قلة او حاكم- ما يمكن ان نطلق عليه البنية التحتية للأستبداد
السياسي, ساهمت هذه البنية التحتية في تقويض مؤسسات دولة القانون و تحجيم ادواتها.
فقد ظهر الدستور في الكثير
من الدول الأسلامية تأثرا بتجارب الديمقراطيات الغربية بعد الحرب العالمية الأولى
غير ان الكثير من الدول الأسلامية صاغت دساتيرها بعد الأستقلال السياسي بعد الحرب
العالمية الثانية. الا ان الدساتير قد فرغت من معانيها بعد اعتداءات السلطة
التنفيذية على الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذه الدساتير, كما اخترقت
الحكومات البرلمانات وسيطرت عليها وحولتها من جهة رقابة وتشريع تمثل الأمة الى
امتداد باهت للسلطة التنفيذية,كما عانت مؤسسات القضاء من تدخلات حكومية قوضت
استقلالها واثرت على ادائها لمهامها واضعفت من كفاءة قضاتها ، هذا بالأضافة الى
المؤسسات الأمنية والبوليسية التي كانت اداة القمع السلطوي بأكثر مما كانت اداة
لتنفيذ القانون وتحقيق العدالة..ادى كل هذا لأحداث تخريب ممنهج لمفاهيم دولة
القانون والحكم الرشيد في المجتمعات
الأسلامية
اسهم كل ما سبق في خلق ثقافة سياسية استبدادية في
العالم الأسلامي ظهرت في كل انماط السلطة في المجتمع بداية من الأسرة الى الدولة مرورا بكل المؤسسات الوسيطة, تحالفت مع رغبات
الحكام في السلطة المطلقة اعاقت تطور دولة القانون بعدما انهارت اسس قيامها التي
تقوم على الشرعية (الغائبة) والعدالة( المتراجعة) والكفاءة ( المهدرة ) ..فتحول
القانون الى يد للسلطة الغليظة على الأفراد وعلامة قهر في المجتمع.
ثالثا/ التأسيس لدولة القانون
في الدول ذات الثقافة الأسلامية
تكمن كلمة السر في التاسيس لدولة القانون والحكم
الرشيد في الدول الأسلامية في القدرة على احداث التفاعل المثمر بين الثقافة
الأسلامية وقيم دولة القانون وتجسير الفجوة الوهمية بين قيم الديمقراطية والأسلام.
فأي محاولة لعزل القيم الأسلامية في المجتمعات ذات الثقافة الأسلامية هي محاولة محكوم عليها
بالفشل لما تلعبه هذه القيم في تشكيل الأحساس بالأنتماء والأختلاف والتميز لدى
قطاعات كبيرة من الناس داخل المجتمعات الأسلامية ، بالأضافة لدورها التي يجعلها
رابط روحاني يربط اجزاء متباعدة جغرافيا لكنها تتقارب ثقافيا عن طريق هذه القيم .
كما ان محاولة اقتلاع المجتمعات من جذورها الثقافية
ومحاولة تشكيل قيم ثقافية مختلفة في الغالب ما تؤدي الى تغذية المشاعر العدائية ضد
الأخر الثقافي والحضاري تنتهي بفشل محاولة
التغيير والترسيخ لشيفونيات قومية او دينية متطرفة .
ومن العرض السابق ربما يتضح ان الفجوة بين القيم
الأسلامية والقيم المؤسسة لدولة القانون فجوة مصطنعة صنعتها قوى الأستبداد التي
شكلت لقرون عديدة بناء القهر السياسي والحكم
السلطوي داخل المجتمعات الأسلامية معتمدة في ذلك على تفسيرات متشددة للنص الأسلامي
المقدس ,وقد تحالفت في ذلك مع قوى متشددة
اخرى لا تعترف بالتواصل الحضاري وتنظر الى الثقافة الأسلامية على انها ثقافة ذات
طبيعة مقدسة ومكتفية ذاتيا بمنتجها الحضاري لا يمكن لها ان تتفاعل مع اي منتج حضاري اخر حتى لو اثبت
كفاءة وفاعلية، مستخدمين في ذلك فكرة خصوصية الحضارة والثقافة الأسلامية كحاجز صد لوأد
كل المحاولات التي تهدف الى ترسيخ الحداثة
والديمقراطية وحكم القانون بدعوى انها قيم غريبة المنشأ لا يمكن ان يتم دمجها في
الثقافة الأسلامية .
وللخروج من نفق الأزمة الوهمية بين قيم دولة
القانون والثقافة الأسلامية اظن ان هناك خطوات ضرورية يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- لن يحدث التطور
المنشود الا من خلال اصلاح ديني حقيقي يقدم رؤية عصرية وشعبية للثقافة الأسلامية
تؤكد على الوجه المتسامح للتراث الأسلامي وتعيد النظر في الوجه المتشدد الذي تم
استخدامه على مر العصور السابقة لتحجيم اي محاولات للتطوير والحداثة , فالكثير من
المجتمعات الأسلامية
- ان لم يكن كلها- يلعب الدين فيها دورا محوريا في تشكيل القيم
والأعراف واي محاولة لدمج قيم الحداثة والديمقراطية والحكم الرشيد دون احداث اصلاح
ديني يفتح ابواب التفاعل بين القيم الدينية والقيم الحديثة فهي محاولة قاصرة لن
تؤدي الى احداث التغيير المتوقع.
2- احياء القيم
المؤسسة لدولة القانون من التراث الأسلامي نفسه. مع التأكيد عليها في مقابل قيم
الأستبداد السياسي ، فقيم مثل المشاركة المجتمعية في صنع القرار وسن القوانين
ومحاسبة الحكام على الألتزام بتطبيق القانون بمساواة وعدالة مع الجميع لها اصول
ثابتة في التراث الأسلامي يجب ان يتم ترسيخها في العقل الجمعي بداخل المجتمعات ذات
الأغلبية المسلمة.
3- مواجهة خطاب
الأكتفاء الثقافي الذاتي والتأكيد ان
الثقافة الأسلامية مثلها مثل بقية الثقافات عبر العالم منتج انساني ربما يتفاعل مع
المقدس لكنه ليس مقدس في ذاته وتنطبق عليها كل قوانين التطور الحضاري التي تؤكد ان
الثقافات تنمو وتتطور بقدر استفادتها من التجارب الثقافية المختلفة عبر العالم,
وان الحضارة الأنسانية كلا واحد يؤثر في بعضه البعض , كما ان الخصوصية الثقافية
ليست دعوة للأنغلاق او الصراع بقدر ما هي دعوة للحوار الثقافي القائم على الندية وبأعتراف
كل طرف بما للطرف الأخر من اختلاف لكنه اختلاف قائم على التنوع القابل للتفاعل والتأثير والتأثر . خصوصية لا
تجعل طرف يذوب في الأخر او ينسحق امامه بل تجعل كل الأطراف على قدم المساواة بقدر
ما يقدمونه من اضافة للحضارة الأنسانية.
4-
التركيز على قصص النجاح عبر العالم
وبين الدول الأسلامية في تطبيق مفاهيم دولة القانون كأساس للتقدم والخروج من
الأزمة الحضارية التي تعاني منها المجتمعات الأسلامية وذلك في تأكيد على معنى
الحديث الشريف ( إنما أهلك مَن كان قبلكم
أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد).
5-
تقوية الأدوات
والمؤسسات التي تمكن لدولة القانون في المجتمعات الأسلامية مثل الدستور والبرلمان
والقضاء وتدريب اجهزة الأمن على تطبيق القانون بكفاءة وأحترافية ..مع التأكيد على
دور التعليم في خلق وعي بمفاهيم دولة القانون وتكاملها مع القيم الأسلامية الكبرى.
الخلاصة
بناء على
كل ما سبق يتضح لنا الأتي
·
ان القيم التي
تشكل الثقافة الأسلامية في اصولها تتقاطع
بشكل كبير وتتقابل في كثير من معانيها مع القيم المؤسسة لدولة القانون.
·
نجحت بنية الأستبداد على مر العصور في خلق فجوة مصطنعة بين
الثقافة الأسلامية من ناحية وقيم
الديمقراطية وحكم القانون من ناحية اخرى
حيث استطاعت هذه الرؤية ان تفسر التراث الأسلامي تفسير متشدد يحيد قيم الشورى
والمشاركة في اتخاذ القرار والمساواة والعدالة لصالح قيم الخضوع والقهر والأستسلام
للظلم والحكم الغشوم.
·
تحالفت هذه
الرؤية الأستبدادية مع رؤية اخرى ترى ان للثقافة الأسلامية خصوصية تجعلها مكتفية
ذاتيا بحيث لا تتفاعل مع اي قيم حضارية غريبة المنشأ بدعوى ان قيم الديمقراطية
والتعددية وحكم القانون قيم غربية لا يمكن ان تنمو في ظل الثقافة الأسلامية.
·
لن يحدث
تطور في اتجاه حكم القانون بشكل طبيعي الا بأحداث اصلاح ديني حقيقي يقدم رؤية
عصرية تدمج ما بين القيم الأسلامية وقيم الحداثة والديمقراطية , وتعيد اكتشاف التراث
وتقدم تفسيرات ورؤى اكثر عقلانية وتسامح وانفتاح للنص الأسلامي . وأي محاولة
لتجاوز الثقافة الأسلامية او تجاهلها والتعالي عليها لن تحقق الهدف المنشود بل
ربما تؤدي الى احداث نتائج عكسية.تماما كما ان اي محاولة لتجاوز مفاهيم مثل
الديمقراطية والحكم الرشيد ودولة القانون بدعوى انها قيم غريبة عنا سيؤدي الى
مزيدا من التراجع ومزيدا من الأستبداد ومزيدا من التخلف الحضاري.
تعليقات
إرسال تعليق