التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المقالات الأحدث

حزب الله... صمت بين خطأ التقدير واستنزاف القدرات

استمرار القصف الإسرائيلي للجنوب اللبناني بما فيها قصف اليوم العنيف على مناطق علي الطاهر ومرتفعات كفرتبنيت والنبطية الفوقا وجبل شقيف، رغم مرور أشهر على وقف إطلاق النار، يكشف عن واحدة من أكثر اللحظات التباسًا في مسار حزب الله منذ تأسيسه. الصمت الذي يلف الحزب ليس مجرّد خيار تكتيكي، بل لغز استراتيجي يدفع لتحليل أسبابه على مستويين: هل يراهن الحزب على أن "الكمون" سيقابل بكمون إسرائيلي؟ أم أن ما نراه هو نتيجة حقيقية لتصفية قدرات الردع، وتحول الحزب فعليًا إلى كيس ملاكمة في ساحة مفتوحة؟ أولًا: كمين التقدير الخاطئ السيناريو الأول يُفترض أن الحزب اختار التهدئة عن وعي، ظنًا منه أن امتصاص الضربات سيكبح شهية إسرائيل، وأنه كلما تراجع خطوة، هدأت النار المقابلة. لكن هذا الرهان على "عقلانية" الخصم يبدو حتى الآن خاسرًا. إسرائيل تقرأ الكمون كضعف، وتستثمر فيه بكل ما لديها من طيران واستطلاع وذخيرة دقيقة. من مارس إلى يونيو، نفذت أكثر من 900 ضربة، بعضها طال مواقع مفترضة لتخزين طائرات درون تحت الأرض، وأخرى استهدفت طرق الإمداد وصواريخ نوعية كان الحزب يحاول إخفاءها. ببساطة، إسرائيل لا تقرأ ا...

من دولة الأمن الى دولة الرفاه – رؤية لتطور دور الدولة للوصول الى حكم القانون -


ظهرت الدولة كظاهرة تاريخية للأستجابة ل 4 حاجات اساسية لدى البشر وهي بالترتيب التاريخي ما يلي:
1- الأمن : حيث ظهرت الدولة اول ما ظهرت لتوفير الأمن والحماية للأفراد ،فالأفراد قبل الدولة كانوا يتمتعوا بحالة الحرية البدائية  ولكنها كانت حرية مشوبة دائما بالأحساس بالخوف وينقصها دوما الشعور بالأمن.  فظهرت الدولة اول ماظهرت كأستجابة لهذا التحدي ووفقا لمبدأ المقايضة التاريخي ولسؤ حظ الأجداد قايضوا الأمن في مقابل الحرية فظهرت دولة الفرعون الأله الذي يوفر الأمن وينزع الحرية .وهي اولى مراحل تطور الدولة في استجابتها للأحتياجات الأنسانية.غير ان الأمن وحده عجز عن تلبية الأحتياجات الأنسانية فالبشر يحتاجوا للأمن لكي يستمتعوا بحرياتهم وهنا يظهر الأمن كغاية للوصول للحرية ولكن الدولة في حالتها البدائية حولت الغاية الى هدف نهائي وتحولت الحرية الى فكرة يحلم  بها الأقدمون ولا يمكن الوصول اليها.
2- العدالة: وكان هذا هو الأحتياج الثاني فبعد فشل الأمن وحده في تلبية الأحتياجات الأنسانية من الدولة تطور التاريخ البشري فظهرت الحاجة للعدالة التي تصاغ في تعليمات وقوانين مثل قوانين بلاد الرافدين (حامورابي النموذج الأشهر وان لم يكن الأوحد) والقانون اليوناني والقوانين التوراتية والرومانية ...غير ان العدالة التي كانت تحدد من قبل الحاكم ووفقا لأهوائه كانت دائما عدالة منحازة وقاصرة وهوائية , وكان الحاكم دائما فوق العدالة وفوق القانون . اي ان دولة العدالة القديمة لم تكن بالضرورة دولة عادلة لذا تطورت الدولة لتلبي الأحتياج الثالث ....
3- الحرية : اكتشف البشر بعد تجربة كتبت بالدم والنار ان مقايضة الأمن والعدالة بالحرية هي مقايضة خاسرة ..فالأمن الذي يتحقق بدون حرية هو امن مؤقت سرعان ما ينقلب الى رعب دموي ، واي عدالة بدون حرية هي عدالة منحازة سرعان ما تنقلب الى مظالم مقننة..والمستبد العادل ما هو الا اسطورة روجتها عقول العبيد ....لذا عاد البشر الى فطرتهم الأولى وحقهم الأول وهو حق الحرية الذي بدونه تنهار كل الحقوق..لذا ظهرت الحقوق الدستورية ودولة القانون لتنظيم هذا الحق،والدستور في الأساس عقد بين طرفين الحاكم والمحكوم يهدم فكرة الدولة الألهية ويضمن حقوق الناس وفي القلب منه وفي مقدمته ضمان حرياتهم . ثم ظهرت الحاجة الرابعة وهي الحاجة للرخاء.
4- الرخاء : وهو الحاجة الرابعة والأخيرة وهي الحاجة للعيش الكريم او الحاجة الى الرخاء. والدولة لا تقوم بنفسها بتوفير هذا الرخاء لكنها تهيء الفرص وتساوي بين مواطنيها للحصول عليها ...وتخلق بيئة قانونية واجتماعية تمكن الأفراد من الوصول الى هذا الهدف ..فعلى عكس الدولة المستبدة التي تحاول ان توفر الرخاء لمواطنيها من خلال قمع حرياتهم تقوم الدولة الحديثة المتطورة بتوفير الرخاء لمواطنيها من خلال دعم حرياتهم وقدراتهم على المبادرة والفعل والأبداع الحر ..
ولكي تضمن الدولة القيام بكل هذه المهام ولأشباع كل هذه الأحتياجات بكفاءة وفاعلية دون ان تطغي فيهم حاجة على الأخر ظهر ما يسمى بحكم القانون او دولة القانون وهي دولة قادرة على القيام بالأربعة حاجات السابقة دون تعارض ودون اخلال .
كيف نشأ الدستور
احدثت الأفكار الليبرالية الكبرى حالة تمرد ضد الموروث الأستبدادي الأوربي واحدثت اولى موجات الدومينو التتابعية في اوروبا والعالم الجديد وأدركت البشرية ان شرعية اي سلطة نابعة من اختيار ورضا المحكومين وليس بقهرهم او اجبارهم .وظهرت نظريات العقد الأجتماعي التي تفسر الحكم وتنشأ السلطة من خلال عقد حر بين الحكومة وجموع المحكومين ،وتوالت الثورات التي كانت الحقوق والحريات محركها الرئيسي(الثورة الأنجليزية 1688 ، الثورة الأمريكية 1776,الثورة الفرنسية1789)

ولكن كيف نشأ الدستور؟

انهارت في اوروبا اسطورة الحاكم الذي يحكم بتفويض الهي (اعتقد الناس وقتها ان الحاكم يحكم تنفيذا لأرادة الله وليس وفقا لأرادة البشر) كما انهارت معها اسطورة الدم الأزرق(كما اعتقدوا ان الحكام من سلالة بشرية انقى من بقية البشر ولهم دم غير دم البشر لونه ازرق وليس احمر) ..
وتذكر الناس ان حق الحرية هو حق طبيعي يفوق الحكام ويعلو على اي سلطة ولا يمكن ان يتم مصادرته لتلبية الحاجة للأمن كما لا يمكن قمعه لتلبية الحاجة للعدالة ، فالأصل ان البشر قد ولدوا احرارا متساوون في حقوقهم وكرامتهم..وكانت هذه الأفكار هي الزلزال الأول الذي مهد الطريق للوصول الى مفهوم دولة القانون بمعناها الحديث.
لذا كان لابد من وثيقة تعاقدية تنظم العلاقة بين الحاكم كطرف اول والمحكومين كطرف ثاني  متأثرين بذلك بنظريات العقد الأجتماعي التي انتشرت في القرن السابع عشر ..
وظهرت وثائق الحقوق (وثيقة الحقوق الأنجليزية 1689 والأمريكية   1791 ) و الدساتير في الأساس لتنظيم حقوق الأفراد وحرياتهم, و لتحميهم من جور اي سلطة دينية كانت او سياسية، ولتصيغ نمط من السلطة يستمد شرعيته من رضا المحكومين ويوزع سلطات الدولة وينظم ممارستها حتى لا تمارس سلطة منهم الأستبداد - على عكس ما هو شائع ان الدستور وثيقة هدفها الأساسي تنظيم شكل الدولة وعلاقات السلطة بداخلها-

والعقد الأجتماعي يلزم الحاكم بأن يحافظ على حقوق الناس وحرياتهم الأساسية في مقابل التزامهم بالنظام العام والولاء للدولة, واذا ما اخل الحاكم ببنود هذا العقد فمن حق المحكومين ان يعزلوه ويثوروا عليه. والمتأمل لأعلان الأستقلال الأمريكي 1776 يكتشف ان فلسفة الأعلان الأساسية هي تقنين التمرد على الأستبداد وشرعنة الخروج على الظلم ( والظلم هنا هو مصادرة حقوق الناس وحرياتهم) ,استنادا الى فكرة الحقوق الطبيعية للبشر( اي انها في طبيعة البشر وتولد معهم وليست منحة من الدولة او السلطة) وهي الحقوق التي اقرها الفيلسوف الأنجليزي جون لوك وحصرها في حق الحياة وحق الحرية وحق التملك وان كان اعلان الأستقلال الأمريكي الذي صاغه توماس جيفرسون قد استبدل التملك بما اسماه ( السعي للسعادة)- وهي نفس الفكرة التي تطورت وتوسعت فيما بعد لتصاغ في الأعلان العالمي لحقوق الأنسان الذي يبدأ في مادته الأولى بأقرار نفس فكرة الحقوق الطبيعية حين يقول (يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.)(1 )
وبالعودة الى نص  وثيقة اعلان الأستقلال الأمريكي التي ربما تكون صالحة لتعبربنا الزمان  الى زماننا هذا وتسافر بنا في المكان الى وطننا هذا نقرأ الأتي:

ونحن نعتبر هذه الحقائق بديهية، ان كل الناس خلقوا متساوين ، وأنهم وهبوا من قبل خالقهم حقوق معينة غير قابلة للتصرف، و أن من بين هذه الحقوق حق  الحياة والحرية والسعي للسعادة. ولتأمين هذه الحقوق ، تتشكل الحكومات من الأفراد ، تستقي سلطتها العادله من موافقة المحكومين، اي انه كلما اصبح شكل الحكومة مدمرا لهذه الغايات، فمن حق الشعب أن يغيره أو يلغيه ، و يقيم حكومة جديدة (2 )-
   وكانت وثيقة اعلان الأستقلال الأمريكي تجسيدا مباشرا لنظرية الحقوق الطبيعية للبشر التي تعلو اي قانون وتسمو فوق اي سلطة كما اقرت مبدأ حق الأمم في الثورة على الطغيان والأستبداد وعدم الولاء لأي حكومة تنتهك حقوق البشر الطبيعية .
الهم الأعلان الأمريكي  الثورات في اوروبا فيما بعد ,بداية من الثورة الفرنسية 1789 ووصولا بما يسمى بربيع اوروبا الأول والموجة الأولى من الديمقراطية 1848 .


  ومن هذه الأفكار الكبرى يمكننا صياغة ثلاثة جمل حاكمة لتطور دولة القانون بمفهومها الحديث وتطور النظم الدستورية الليبرالية
1-   البشر احرار.(فحقهم في الحرية حق غير قابل للمساومة او التفاوض تحت اي حجة او ذريعة وهو حق طبيعي اي ليس منحة من جهة او دولة اوحكومة بل يولد به البشر ولاينفصم عنهم,  ويضمن الدستور والقانون حرياتهم وحقوقهم)
2-   البشر متنوعون( اي انهم رغم تساويهم في الحقوق الا انهم مختلفون في ارائهم ومعتقداتهم ورؤيتهم للعالم, وعلى القانون ان يضمن حقهم في التعبير عن هذا الأختلاف دون عنف او كراهية, وان يضمن حقهم في المعاملة بمساواة مع الجميع برغم تنوعهم وأختلافهم وذلك لتحقيق الأدارة السلمية للتنوع والوصول الى الأندماج الوطني الشامل)
3-   البشر متساوون. ( اي انهم رغم تنوعهم فأن لهم جميعا نفس الحقوق الطبيعية او الأساسية ..متساوون امام القانون بغض النظر عن اختلافاتهم الأثنية او الأجتماعية او العقائدية )
وعلى اي دستور حديث ان يضمن تحقق الثلاث جمل السابقة بحيادية وكفاءة وفاعلية لتكون اساسا لدولة القانون .
الحقوق الدستورية- سلطة حماية وصيانة للحقوق
قامت الحقوق الدستورية الليبرالية في الأساس لحماية ثلاثة فئات من طغيان ثلاثة فئات اخرى
1-   حماية الفرد من استبداد الجماعة (فأقرت مبدأ الحقوق الفردية كضمانة اساسية لحماية اختيارات الفرد وحرياته من طغيان او اجبار اي جماعة اجتماعية او سياسية او ثقافية )
2-   حماية الجماعة من استبداد الجماعات الأخرى( فأقرت مبدأ حقوق الأقليات الأثنية او الدينية او السياسية في التعبير عن اختلافاتهم والحفاظ على تميزهم وعدم اخضاعهم للثقافة السائدة طالما مارسوا هذا الأختلاف بطريقة لا تحض على عنف او كراهية للجماعات الأخرى حتى ولو كانت هذه الجماعات الأخرى هي الجماعة السائدة او التي تشكل الأغلبية)
3-   حماية المجتمع من استبداد الحكومة(بحيث اقرت ان شرعية اى حكومة تنبع من اختيار الناس لها ورضاهم العام عنها. فأذا فقدت الحكومة هذا الرضا العام اصبح من حق المجتمع استبدالها وتغييرها بطريقة سلمية فأن لم تستجب للتغيير السلمي فقدت الشرعية ويحق وقتها للمجتمع الخروج عليها واستبدالها بطرق ثورية).

وظائف الدستور
يقوم الدستور كوثيقة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم بعدة وظائف يمكن ان نجملها فيما يلي :
1-   ينشأ الأمة او يحافظ على بقائها ,ويهيء بيئة سياسية واجتماعية للعيش المشترك بين مكونات وعناصر الأمة لتحقيق الأهداف الوطنية الجامعة.
ويمكننا ان نلاحظ دور الدستور في انشاء الأمة او الحفاظ عليها في الوثائق الدستورية او شبه الدستورية التالية التي نوردها على سبيل المثال:
اولا/ وثيقة المدينة  التي ابرمت بعد هجرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الى المدينة المنورة بين المهاجرين وقبائل الأنصار وقبائل اليهود الموجودة بالمدينة انذاك . وهي وثيقة شبه دستورية اقرت حقوق وواجبات وانشأت امة جديدة.تقول الوثيقة في بدايتها في اشارة للموقعين عليها:
(إنهم أمة واحدة من دون الناس.) (3)
ثانيا/دستور الولايات المتحدة الذي يأتي في ديباجته ما هو نصه الأتي:
(نحن شعب الولايات المتحدة ,لأقامة اتحاد كامل ,ولتأسيس العدالة,وضمان السلم الأهلي،وللدفاع المشترك,ولتحسين الرخاء العام,ولضمان هبة الحرية لنا ولأجيال قادمة من بعدنا ,ننظم ونؤسس هذا الدستور...) (4)
ومن هذه الديباجة نلاحظ ان الدستور ينشأ الأمة الأمريكية ويحدد اهدافها الوطنية الجامعة المتمثلة في اقامة الوحدة,والعدالة،وضمان السلام المجتمعي,والدفاع المشترك,وتحسين الرخاء,وضمان الحرية.
ثالثا/ دستور جنوب افريقيا الذي جاء في ديباجته ما يلي:
( نحن شعب جنوب افريقيا ..ادراكا منا للظلم الذي تعرضنا له في الماضي نكرم اولئك الذين عانوا من اجل نشر العدل والحرية في ارضنا , ونحترم اولئك الذين عملوا من اجل بناء بلدنا وتنميته, ونؤمن ان جنوب افريقيا ملكا لكل من يعيش فيها ,متحدين رغم تنوعهم) (5)
وتحدد هذه الديباجة ان الدولة ملكا لكل ابنائها كأمة واحدة. كما تحدد الأهداف الوطنية الجامعة للأمة وهي رفض الظلم , واقامة العدل والحرية,والتنمية والبناء,والوحدة مع الأقرار بالتنوع.
غير ان الدستور ليس بالضرورة هو من ينشء الأمم ,فأمة موغلة في التاريخ كالأمة المصرية لم ينشأها الدستور -حيث ان نشأتها سبقت فكرة الدستور بألاف السنين-  الا ان الدستور في الحالة المصرية يقوم بوظيفة  الحفاظ على تماسك الأمة ويؤكد على وحدتها ويحاول ان يهيء البيئة الأجتماعية والقانونية للعيش المشترك.
هذا عن الوظيفة الأولى للدستور. فماذا عن الوظيفة الثانية؟
2-    يحدد الدستور العلاقة بين مؤسسات الدولة وسلطاتها بحيث يضمن تحقق مبدأين اساسيين:
أ‌-      توزيع متوازن لمصادر السلطة والقوة بما يضمن عدم تركيزها في يد سلطة او مستبد , وذلك من خلال ما يسمى بمبدأ الفصل بين السلطات.
ب‌-                        ان تبقى كل السلطات تحت المسائلة والرقابة الشعبية, بحيث تظل الأمة مصدر لكل السلطات وأساس لأي شرعية وذلك من خلال مبدأ المحاسبة والتوازن  Check & Balance
اما الوظيفة الثالثة للدستور :
3-    يحول الدستور السلطة السياسية من سلطة متحكمة تمارس السلطة من خلال  قهر وأجبار الشعب الى سلطة حكم تقوم بدور الوكالة عن الشعب , او من سلطة استبداد تنزع الحقوق الى سلطة حماية تصون الحقوق .
وهي الوظيفة الأساسية والأولى بالحماية في وظائف الدستور.
الدساتير والحقوق في مصر
تنقسم الدساتير من حيث ترتيب اولوياتها الى نوعين
1-    دساتير تقدم الحقوق الأنسانية كهدف اولي ورئيسي يوضع في مقدمة الدستور او يصدر به وثيقة قد تكون اقوى من الدستور نفسه تسمى بوثيقة الحقوق ،بل ان بعض البلدان كأنجلترا لم تصيغ دستور مكتوب مكتفية بوثيقة الحقوق التي توضح الحقوق الأنسانية التي لايمكن للحكومة ان تتجاوزها او تصادرها او تعيد صياغتها بما يخدم اهداف استبدادية والا اعتبرت هذه الحكومة غير شرعية يجوز التمرد عليها ...
ويمكننا ان نلاحظ هذا النوع من الدساتير في الدستور الألماني الذي يذهب في مادته الأولى الى ما يلي :
( الكرامة الأنسانية لا تمس , واحترامها وحمايتها هو المهمة لكل سلطات الدولة) (6)
والغريب ان دستور الولايات المتحدة قد مر بأزمة كبرى حين خرج بدون اقرار هذه الحقوق كتابة ايمانا من الأباء المؤسسين للولايات المتحدة ان هذه الحقوق امور بديهية ليست في حاجة الى ان يتم صياغتها في الدستور بل انهم ذهبوا ان هذه الحقوق اقوى من الدستور نفسه. الا ان ذلك لم يرضي مجالس الولايات المنضوية في الأتحاد  فأجبرت الحكومة  الفيدرالية ان تصدر وثيقة حقوق بعد اصدار الدستور بسنتين لأقرار وتوضيح حقوق المواطن حتى تفوت الفرصة على اي حكومة مستقبلية ان تقوم  بالألتفاف على هذه الحقوق بحجة انها لم تذكر في الدستور. وهي وثيقة لها قوة الدستور بل البعض يعتبرها اقوى من الدستور نفسه. 
اما عن النوع الثاني من الدساتير فهو :
2-    دساتير تضع اهداف كبرى او شكل الدولة وطريقة الحكم كأهداف اولية قبل الحقوق وهو ما يمكن ان نلاحظه في اخر دستور سوفيتي سنة 1977 الذي جاء في ديباجته ما يلي :
(قامت ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، التي قام  بها العمال والفلاحين في روسيا تحت قيادة الحزب الشيوعي برئاسة لينين ، وأطاح بحكم الرأسماليين وملاك الأرض ، و كسر أغلال القهر، و أنشأ  ديكتاتورية البروليتاريا ، وإسس الدولة السوفيتية، نوع جديد من الدولة ، وأداة أساسية للدفاع عن مكاسب الثورة وبناء الاشتراكية والشيوعية. وبدأت البشرية بهذا حقبة جديدة من التحول من الرأسمالية الى الأشتراكية) (7)
 وفي مادته الأولى يذهب  نفس الدستور الى ما يلي :
(اتحاد الجمهوريات السوفيتية دولة اشتراكية للشعب كله , يعبر عن مصالح العمال والفلاحين والمثقفين والعمال من كل الأمم والجنسيات ) (8 ) المادة الأولى من الدستور السابق.
والملاحظ ان هذا الدستور دستور تكلم في الأساس عن اهداف قومية كبرى ومصالح اقتصادية وثورية في ديباجته وفي مادته الأولى وهو على عكس الدساتير ذات الأولوية الحقوقية يعطي اولوية لهذه الأهداف ولهذا التصنيف الأيدلوجي للدولة وتتراجع فيه مواد الحقوق في الترتيب.بحيث يعكس هذا الترتيب اولويات الأهتمام بالحقوق والحريات. (9)
وللأسف الشديد كانت كل دساتير مصر من النوع الثاني الذي يهتم بشكل الدولة او الحاكم او بأهداف قومية او وطنية كأولوية اولى وتتراجع الحقوق والحريات كأولويات متأخرة نسبيا.
فأول دستور بالمعنى الحديث في مصر هو دستور 1923 والذي تم صياغة مقدمته كما يلي :
(نحن ملك مصر
بما أننا مازلنا منذ تبوأنا عرش أجدادنا وأخذنا على أنفسنا أن نحتفظ بالأمانة التى عهد الله تعالى بها الينا نتطلب الخير دائماً لأمتنا بكل ما فى وسعنا ونتوخى أن نسلك بها السبيل التى نعلم أنها تفضى إلى سعادتها وارتقائها وتمتعها بما تتمتع به الأمم الحرة المتمدينة؛
ولما كان ذلك لا يتم على الوجه الصحيح إلا إذا كان لها نظام دستورى كأحدث الأنظمة الدستورية فى العالم وارقاها تعيش فى ظله عيشاً سعيداً مرضياً وتتمكن به من السير فى طريق الحياة الحرة المطلقة ويكفل لها الاشتراك العملى فى إدارة شئون البلاد والاشراف على وضع قوانينها ومراقبة تنفيذها ويترك فى نفسها شعور الراحة والطمأنينة على حاضرها ومستقبلها مع الاحتفاظ بروحها القومية والإبقاء على صفاتها ومميزاتها التى هى تراثها التاريخى العظيم ؛
وبما أن تحقيق ذلك كان دائماً من أجل رغباتنا ومن أعظم ماتتجه إليه عزائمنا حرصاً على النهوض بشعبنا إلى المنزلة العليا التى يؤهله ذكاؤه واستعداده وتتفق مع عظمته التاريخية القديمة وتسمح له بتبوء المكان اللائق به بين شعوب العالم المتمدين وأممه ؛
أمرنا بما هو آت.........)(10)


وهي مقدمة تحول الدستور برمته من وثيقة تعاقدية  بين الحاكم والمحكوم الى منحة او هبة من الحاكم.
الا ان دستور  1923   وبرغم من مقدمته غير الليبرالية كان حالة متقدمة جدا مقارنة لما كان قبله ومقارنة بدساتير كانت لاحقة عليه, حيث اقر نفس الدستور مواد الحقوق والحريات بداية من المادة الثانية وأقر في مادته الرابعة هذا النص المتقدم للغاية ( النص متقدم سواء في ترتيبه او في رؤيته المتقدمة)
 مادة4:الحرية الشخصية مكفولة.(11)
وربما كان النص وترتيبه المتقدم بين مواد الدستور (المادة 4) دلالة على اهتمام الدستور بالحرية والحقوق الفردية والمدنية ذلك الأهتمام الذي تراجع فيما بعد في كل الوثائق الدستورية المصرية.
فدستور 1971 على سبيل المثال يبدأ بمادته الأولى وبدون مقدمة او ديباجة
بما يلي: مادة 1 جمهورية مصر العربية دولة نظامها اشتراكي ديمقراطي يقوم على تحالف قوى الشعب العاملة. والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة.(12)
وهي مادة تحدد شكل الدولة وطبيعة اطارها الأيدلوجي واهدافها القومية الكبرى وتتراجع مواد الحريات والحقوق فبعدما كانت بداية من المادة (2)  الى المادة (22) في دستور 1923 تراجعت الى مواد الباب الثالث بداية من المادة (40) الى المادة (63) وهو تراجع يعكس مدى تراجع الأهتمام بالحريات والحقوق.
وفي تعديل 2005 تم صياغة المادة الأولى كما يلي (جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل علي تحقيق وحدتها الشاملة).(13)
ولم تشهد مواد الحريات والحقوق اي تعديل ايجابي او حتى ترتيب شكلي يعكس اهتمام بها, بل على العكس تماما تم اضافة تعديل ظهر كما لو كان لغم قد وضع في طريق الحريات والحقوق في مصر فيما عرف وقتها بمادة الأرهاب ( وكان المقصود بهذه التسمية مكافحة الأرهاب الا ان الواقع قد اثبت ان التسمية ربما اشارت للأرهاب الذي تضعه هذه المادة امام الحريات والحقوق في مصر) وحمل هذا التعريف رقم 179 بين مواد الدستور وتم صياغته كما يلي : (تعمل الدولة على حماية الأمن والنظام العام فى مواجهة أخطار الإرهاب , وينظم القانون أحكاماً خاصة بإجراءات الاستدلال والتحقيق التى تقتضيها ضرورة مواجهة هذه الأخطار , وبحيث لا يحول الإجراء المنصوص عليه فى كل من الفقرة الأولى من المادة 41 و المادة 44 والفقرة الثانية من المادة 45 من الدستور دون تلك المواجهة , وذلك كله تحت رقابة القضاء .
ولرئيس الجمهورية أن يحيل أية جريمة من جرائم الإرهاب إلى أية جهة قضاء منصوص عليها فى الدستور أو القانون .) (14)
واظن ان المادة السابقة كانت اكبر ردة على الحقوق والحريات في في دساتير مصر الحديثة بحيث منحت الدولة متمثلة في اجهزتها الأمنية الحق في تعطيل مواد الحريات التي نص عليها الدستور تحت مزاعم مكافحة الأرهاب ...
وبناء على كل ما سبق فأن الدساتير المصرية لم تعطي الحقوق والحريات والكرامة الأنسانية الأولوية بل ان تطور الدساتير المصرية من 1923 الى 2005 كان تطور عكسي يسير في الأتجاه الخاطىء ويعكس تراجع في الأهتمام بمواد الحريات والحقوق سواء في ترتيبها الرقمي بين مواد الدستور الذي انعكس بدوره على وضعها السياسي والمجتمعي والثقافي داخل المجتمع المصري.
نحو دستور يؤسس لدولة القانون والحريات  
ربما تبدأ الخطوة الأولى لصياغة دستور عصري قادر على تأسيس جمهورية مصرية تؤمن بالحرية والتنوع والمساواة ان نعيد ترتيب اولوياتنا وقناعاتنا لنؤمن ان كرامة الفرد وحقوقه فوق اي هدف وتسمو على اي اعتبار..علينا ان نعيد ترتيب اولوياتنا لندرك ان الدستور وثيقة لحماية الحقوق والحريات في الأساس ووسيلة لصياغة طريقا للعيش المشترك وعقدا لحفظ حرياتنا نوقع عليه بأرادة حرة لنمنح الشرعية لمن يحكم كوكيل عنا وننزعها منه اذا ما حاد عنه, الدستور وثيقة لصيانة كرامة الأنسان المصري والأمة المصرية قبل ان يكون وثيقة لصياغة افكار ايدلوجية كبرى .
ولا يمكن لنا ان نصل الى دولة القانون الا بدستور يضع الأولويات الأتية في مقدمته قبل اي هدف اخر:
1-    الحفاظ على الحقوق والحريات وهي كما يلي :
أ-حقوق الحياة وحرمة الجسد.
ب- حقوق الحريات الفردية والحق في الأختلاف والتنوع.
ج- حقوق الكلام والأعتقاد والحريات المدنية.
وهنا اقترح ان يعاد ترتيب مواد الحريات والحقوق في الدستور القادم بحيث تكون المواد الأولى ,او تصدر بها وثيقة حقوق منفصلة لها قوة الدستور  مع النص انها مواد غير قابلة للتغيير او الحذف او الألغاء حتى بقوة الدستور نفسه.
2-    الحفاظ على العيش المشترك بين المصريين وتوفير البيئة القانونية والأجتماعية لتحقيق الوحدة بين عناصر الأمة دون تمييز لصالح فئة او تهميش ضد اخرى.وعلينا ان ندرك ان اي نص تمييزي هو نص لا يحقق العيش المشترك على المدى الطويل.

3-    الحفاظ على مدنية الدولة بشروطها الأربعة  كما يلي:
أ- دولة القانون (اي ان السيادة فيها لحكم القانون الذي لا يميز لصالح احد ولا يستبعد او يقصي احد)
ب - دولة تؤمن ببشرية القوانين والمؤسسات(حيث لا ينبغي لأحد ان يحكم بأسم الحق الألهي او قانون الهي ثابت وغير قابل للمناقشة او التطوير، والقانون المعترف به هو القانون البشري الذي يستمد القيم العليا للأديان والأنسانية ولكنه يخضع دائما للفهم والجدل البشري وقابل دائما للتطور اذا اقتضت الضرورة المجتمعية)
ج- دولة ديمقراطية ( اي ان السيادة فيها للأمة دون ان يدعي احد الوصاية على هذه الأمة، ويختار فيها المواطنين ممثليهم للتشريع والرقابة على الحكومات ، ولا تصدر فيها القوانين الا بالرضا والقبول العام والحكم فيها من خلال مؤسسات منتخبة)
د- دولة مساواة ( اي ان مواطنيها سواء في الحقوق والواجبات ولا يمكن بأي حال ان يتم التمييز بينهم على اساس ديني او عرقي او نوعي ومعيار التمايز الوحيد هو الكفاءة والموهبة والإنجاز)


4-   الحفاظ على توازن السلطات وتوزيع القوى دون تركيزها في يد فرد او فئة او مجموعة.
تضمن هذه الأولويات ان نصل الى دستور يؤسس لدولة حديثة تصون الحريات ولا تعتدي على الحقوق وتضمن المساواة الكاملة وتدير التنوع بما يضمن الوصول الى حكم القانون وسيادة الأمة.





(1)          الأعلان العالمي لحقوق الأنسان- المادة الأولى-

(2)          اعلان الأستقلال الأمريكي 1776-

 (3) وثيقة المدينة وهي تشير في بدايتها انها تنشأ امة مكوناتها من الموقعين على الوثيقة من مسلمين ويهود.
(4) ديباجة دستور الولايات المتحدة الأمريكية.
(5) ديباجة دستور جنوب افريقيا .
(6) الدستور الألماني – المادة الأولى-
(7) ديباجة الدستور السوفيتي – اكتوبر-1977
(8) ديباجة الدستور السوفيتي – اكتوبر-1977
(9) في كثير من الحالات ترتبط هذه الحقوق والحريات بمدى التزام الفرد بأيدلوجية الدولة وأهدافها الكبرى فأذا لم يلتزم الفرد بهذه الأهداف واختلف معها سقطت عنه الحقوق والحريات.فالنوع الأول من الدساتير الحقوق والحريات فيه مرتبطة بالكرامة الأنسانية والوجود الأنساني ولا ترتبط بأيدلوجية الفرد وأفكاره حتى وان اختلفت مع ايدلوجية الدولة ( بشرط الاتكو تلك الأفكار محرضة على عنف او كراهية)اما النوع الثاني من الدساتير فهو يقدم الأيدلوجيا على الحقوق والحريات ..والحقوق عنده مرهونة بمدى التزام الفرد برؤية الدولة وهذا مانلحظه في الدول الشمولية التي قمعت الحريات بدعوى ان لا حرية لأعداء الثورة .
(10) مقدمة دستور 1923
(11) نفس الدستور
(12) دستور 1971 – مادة1
(13) دستور جمهورية مصر العربية مادة 1 تعديلات 2005
(14) تعديلات دستور جمهورية مصر العربية لسنة 2005.

تعليقات

المشاركات الشائعة