في البدء كان السوق:
لماذا استمر السوق كأقدم ظاهرة انسانية تمشي جنبا الى جنب مع ظاهرة السلطة السياسية؟
لأن السوق جزء من الطبيعة الإنسانية اللي هي قائمة على التبادل والتنافس .. يميل البشر الى تبادل مالديهم لأشباع حاجاتهم الأساسية او الثانوية ..
وفي سعيهم للتبادل يتمايزوا في القدرات والإمكانيات والقدرة على التطوير والإبداع... وبما انهم يتميزوا بالرشادة ايضا اي السعي لأكبر قدر من المنفعة واقل قدر من الضرر ظهرت ظاهرة السوق التي تبادلوا فيها السلع والأفكار..
في السوق التقى البشر ببشر غيرهم متفوقين في امور اكثر منهم فتعلموا منهم ونقلوا افكارهم فتبادلوا مع السلع الأفكار وهذا حدث منذ اكتشاف النار مرورا بالحروب الصليبية التي عرف فيها الأوربين التحضر الشرقي الى عصر الفيس بوك وثورة الإتصالات التي تقابل فيها البشر وتفاعلوا بالأفكار عبر شاشات الكمبيوتر...
اليساريين يتخيلوا ان السوق صنعه الظلم الإجتماعي المصطنع لذا فيجب التخلص منه واستبداله بدولة قوية توزع السلع والخدمات وكذلك الأفكار ... اليساريين يتخيلوا عالم يتم صناعته من داخل قصور الأغنياء فيخاطبوا النزعة المتمردة في البشر للثورة على السوق والأشرار الذين يتحكموا في مصائرهم واستبدالهم بدولة متحكمة تمثل الأغلبية المنتجة تخلق في الناس الأحساس العالي بحقوق بعضهم البعض وحينما تخلق هذا الأحساس تحل نفسها بنفسها (بعد عمرا طويل طبعا وهي نبؤة ماركس العصية على التحقق) حيث يحل الحس البشري بالحقوق والمساواة محل هذا الجهاز الجبار اللي اسمه الدولة التي تحتكر القوة وتوزع الثروة ... اليوتوبيا مبهرة في عالم التنظير ولكنها مدمرة اذا ما تم اختبارها في الواقع..
يخاطب اليسار في البشر قيمة المساواة والسوق يخاطب فيهم غريزة التمايز لذا نجح السوق وسقطت اليوتوبيا....
الأزمة لديهم انهم يميلوا الى التبسيط المخل الذي يصور التفاعل البشري على انه تفاعل مصطنع وفي الحقيقة هو تفاعل اكبر من ان يواجهه فاعل واحد او مجموعة محدودة من الفاعلين هو تفاعل الكل مع الكل ..هو تفاعل يحدث توازن طبيعي وفقا لتداخل اردات الناس المتصارعة او المتحالفة ...
لم تخلق امريكا مثلا داعش بل ان داعش خرجت بنت بيئة الشرق المستبدة والأحادية الرؤية كذلك لم يخلق الإتحاد السوفيتي الثورات الأشتراكية في امريكا اللاتينية بل خلقتها البيئة والتفاعل والفقر ..
الفعل ورد الفعل هو من يخلق حركة التاريخ طبعا تلعب فيه الأرادة الرشيدة دور هام لكنه يأخذ شكله النهائي بعد تفاعل الإرادات والأفكار .. والسوق جزء من هذه الحركة ويسير معها ويطورها ويقوم بدور فيها لذا فأن اكثر الأنظمة السياسية نجاحا هي تلك التي تتفق مع هذه الطبيعة اي التي تترك البشر لتنافس سياسي وإقتصادي لتطوير ملكاتهم واشباع حاجاتهم وصراع افكارهم وإخراج افضل ما لديهم من الحركة والتطوير لا من الثبات والجمود ولكن في اطر سلمية غير عنيفة.. وأكثر النظم السياسية فشلا هي التي تميل الى تركيز القوة واحتكار الأفكار ومصادرة سوق السلع وسوق الأفكار.
تعليقات
إرسال تعليق