يفوز دوما الأكثر تنظيما, بغض النظر عن صدق نواياه فالإستبداد المنظم ينتصر على الديمقراطية المفككة التي لا تملك خطة.
لم تكن المشكلة مغادرة الميدان يوم 12 ام يوم 11, بل كانت المشكلة انه لم يكن هناك مشروع وخطة لدى من في الميدان مالذي يجب ان نفعله بعد ذلك , ورغم ان كل الأطراف لم تكن تملك خطة لكن في مثل تلك اللحظات سيفوز المنظم اكثر ومن يملك الموارد الاكبر ومن يستطيع أن يقنع أكبر قدر من الناس بروايته.
الا يكون للثورة قائد ولا تنظيم ربما كان خبر جيد لإسقاط نظام , لكنه ابدا ليس خبر جيد لبناء نظام. فدوما هناك فارق كبير بين الإحتجاج والسياسة. فكلنا نستطيع ان نلمح ان السائق لا يعرف قواعد القيادة لكن ليس كل من صرخ في وجه السائق يستحق ان يقود... التنظيم كان ولازال فريضة الثورة الغائبة.
اين كانت المشكلة؟
طرح السؤال الصحيح نصف الطريق إلى الإجابة الصحيحة، فهل طرحت الحركة الاحتجاجية المصرية في يناير 2011 الأسئلة الصحيحة عن طبيعة النظام المصري وعن التحالفات المؤسسة لنشأته واستمراره؟ هل كان مبارك ودائرته الأقرب السبب الأهم في أزمات مصر العميقة؟ كانت إجابة موجة الاحتجاج الأولى ليناير على هذا السؤال بالإيجاب، لم تدرك يناير في هذه الموجة شبكة مصالح جمهورية يوليو العسكرية التي أسست لمعادلات الحكم والتحكم في موازين السلطة السياسية وطريقة توزيع الموارد الإقتصادية. كان النظام أعمق من مبارك وادارته بكثير. لم يكن الجيش والحركة الاحتجاجية "ايد واحدة" كما صورت دعاية الايام الخوالي الأولى، رغم تلاقي رغبة الطرفين في 11 فبراير والوصول إلى نفس الرغبة وهو الاطاحة برأس النظام غير أن الأهداف كانت متباينة تماما.
هدف جمهورية يوليو الإستراتيجي
هدف جمهورية يوليو الاستراتيجي لم يتغير تحت حكم السادات اومبارك اوالسيسي فهم امتداد استراتيجي لجمهورية يوليو العسكرية. اي يحمل اتفاق ضمني على الهدف النهائي وهو التمكين للسيطرة العسكرية على الحكم. هم فقط اختلفوا تكتيكيا مع الناصرية. فالسادات اراد ان يحافظ على امتيازات يوليو لكن بثمن اقل , فالدولة التي تقدم الخدمات اصبحت غير قادرة ان تقدم مزيد من الخدمات. فأراد ان يخلق سوق تحت السيطرة وطبقة منتفعة تعيش على تخوم السلطوية العسكرية وهي طبقة رجال اعمال ترضى بالسيطرة العسكرية وفي نفس الوقت تحاول ان تؤسس لإقتصاد رأسمالي تحت سيطرة الأوليجاركية العسكرية. هذه الطبقة تطورت نسبيا وارادت كسر الإحتكار العسكري من داخل بيت مبارك الحاكم ( good move على حسب تعبير هواة لعبة الشطرنج) فظهر الصراع المؤقت ولكنه مؤثر بين الأوليجاركية العسكرية، وبين طبقة لها تطلعات ان تتوسع حتى ولو على حساب العسكرتاريا الحاكمة، واختارت بعقلية تاجر ذكي من داخل بيت مبارك حلقة وصل بينها وبين العسكر وهو جمال مبارك في مساومة تبدو ذكية وكادت ان تنجح لولا ان العسكر فطنوا لها وفطنوا انها ربما تكون تجاوز لأتفاق المرحلة الساداتية غير المعلن الذي سمح لهذه الطبقة بالتمدد لكن تحت سيطرة صناع قرار عسكريين كحكم نهائي ومرجع اخير.
ميدان واحد ام ميادين متعددة؟
كانت المؤسسة العسكرية متماسكة تماما ومحددة الأهداف، إلا أن الحركة الاحتجاجية المصرية في يناير لم تكن كذلك. فربما اجتمع ملايين المصريين في ميدان بهدف إسقاط مبارك، لكن اكتشفنا بعد هذا ان هؤلاء الملايين لم يشكلوا حركة منظمة تجتمع على أهداف متفق عليها لتأسيس النظام الجديد. رفع الجميع شعارات حول العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ولكن لم يتفق أحد على برامج او خطط لتحقيقها. اتفق الجميع على الديمقراطية ولكن اختلفوا ما المقصود بها، هل هي ديمقراطية ليبرالية تعددية تضع حدود فاصلة بين الدين والدولة، أم أنها ديمقراطية محكومة برؤية المؤسسات الدينية التي لها الحق في التدخل في العملية التشريعية و تحديد ما يجوز مناقشته والاختلاف عليه وما لا يجوز - مثلما نص دستور 2012 حول دور الأزهر- كما اختلفت الرؤى في دور الجيش في السياسة، ومساحة حقوق الاقليات، ومساحات الحريات العامة وحرية الضمير والاعتقاد. فبينما كان ميدان التحرير مساحة التقاء للقوى التي تهدف للاطاحة بمبارك في الفترة من 25 يناير ل 11 فبراير، كان أيضا مساحة للتعبير عن تشتت الأهداف بين رفاق ال 18 يوم الأولى وبداية الاستقطاب بين قوى التغيير، فالميدان الذي رفع شعار الدستور اولا في يونيو 2011 عاد ورفع الشريعة اولا في يوليو من نفس العام فيما عرف لاحقا بجمعة قندهار. كان الانقسام في الائتلاف الواسع الذي شكًل يناير يزداد حدة بما يوحي أن التحرير لم يكن ميدان واحد للثورة، بل كان نقطة التقاء لفرقاءغير قادرين على العمل سويا لوضع قواعد نظام سياسي يسمح للجميع بالمشاركة وطرح السياسات والأفكار. اختصارا، أثبتت الشهور التالية ليناير ان التحرير لم يكن ميدان يعبر عن حركة ثورية موحدة ومنظمة، بل أكثر من ميدان اجتمع فيه الناس وهم جميعا يعرفون ما الذي لا نريده الآن، لكن أختلفوا جميعا ما الذي نريده فيما بعد.
يناير وسيلة لتصفية صراعات جبهات الحكم.
في نهاية حكم مبارك تصاعد الصراع المكتوم بين مكونات حكمه، الاوليجاركية العسكرية المؤسسة للجمهورية من جهة، ورجال الاعمال المتحالفين مع جمال مبارك ولجنة سياسات الحزب الوطني من جهة. يناير كانت فرصة قدرية غير مرتبة استغلت فيها العسكريتارية طرف ثالث اراد ان ينقلب على الهدف الإستراتيجي ليوليو ويخلق حالة تعود فيها الأمور للحالة الطبيعية وهي ان يكون العسكر تحت السيطرة المدنية وان تنتظم القوى الحية في المجتمع المصري في شكل تنظيمات سياسية تتنافس على اصوات وعقول وقلوب الناس. غير ان عدم قدرة يناير على فهم طبيعة الصراع القائم وأبعاده و ما تحت جبل جليد إدارة مبارك من ناحية، وعدم وحدة ووضوح اهدافها من ناحية، والأهم عدم تنظيمها جعلها لا تفطن انها تم استخدامها كمارد خرج من قمقم الشعب في تصفية احد اطراف الدولة المعسكرة للطرف الأخر الذي تطلع الى دور اكبر من المتفق عليه. وبعد انتهاء دور يناير اراد الطرف المنتصر وهو العسكر ان يصفي يناير ويرجع للقواعد القديمة لدولة يوليو مع نفوذ أكبر للاوليجاركية العسكرية واستبعاد أكبر الشركاء عصر السادات ومبارك وقمع أكبر لتحالف يناير المدني.
لم يكن خطأ يناير انها تركت الميدان في 12 فبراير، لكن كان خطاءها الأكبر ان بعد أن انفض الميدان انقسم الى عدة ميادين ، وكل ميدان منهم له رؤيته لكيف يدير مرحلة ما بعد مبارك، فمن ارادها يمينا ومن ارادها يسارا ولكنهم جميعا اشتركوا في انهم لم يكونوا يعرفوا طبيعة الخصم المتماسك الذي يواجهوه ولا طبيعة أهدافه النهائية ولا أدواته لتحقيق هذه الأهداف.
تعليقات
إرسال تعليق